من كمال العقل وحسن التدبير، أن يهيء المرء ويصلح أمور سفره وإقامته، حله وترحاله.
فإذا أقام ابتغى بيتا، ورزقا وعملا، وجيرانا وأصحابا. وإذا سافر طلب زادا وراحلة ورفقة. وحين يخط لكل ذلك ما يحتاج، يكمل حاله، وينال مبتغاه، ويعيش مطمئنا، ويحيا حياة طيبة، وكل نقص في خطته يعقبه تعب وعنت وألم وحسرة..
هذا ما تراه ممن خرج في سفر بزاد قليل، أو راحلة معطوبة، أو رفقة فاسدة. وتراه في الذي يقيم بلا تخير للمسكن ومكانه وللأصحاب، كالذي يرمي شباكه كيفما اتفق بلا نظر ولا قصد للنهر الوفير، ولا ترقب لموسم الصيد.
كل شيء في حياة الإنسان في حاجة إلى خطة: نزله، وتجارته، وزيجته، وخلانه. بها يحصل على الأحسن والأوفق له، فإذا ما أخذ في الأشياء اعتباطا وبضرب من الحظ، غنم وغرم، بل يكثر غرمه ويقل غنمه.
وقد وهب الله تعالى الإنسان كل الأدوات لاختيار خطة صالحة لحياته، من: عقل مدبر مفكر يزن به الأمور بميزان صحيح، وقلب محرك ومحفز للعمل، وجوارح معينة، وإخوان مشورة ونصح، وكتب فيها تجارب وعبر، وشريعة منزلة تحدد وتضبط السلوك والأعمال.
فلا عذر إذن، قد هيئت له الحياة مدرسة، فيها: أساتذة ومربون وموجهون، ومناهج وعلوم، ومحطات ومراحل. مدرسة اختارته تلميذا منذ أن كتبت عليه الحياة، وحُلّيَ بالفؤاد والسمع والبصر، فعليه أن يختارها للتعلم والإفادة منها، لإقامة حياة كريمة هانئة، وليس له إلا ذاك، أو فماهو الإخفاق والفشل الذريع وضياع المستقبل.
في تحقيق خطة الحياة يكثر الناصحون المنبهون، ينوهون بالخطط لحياة زوجية سعيدة، وأسرة مترابطة، وتجارة رابحة، وعلاقات متميزة، وعلوم راقية، ونجاحات شتى. وقليل أولئك الذين يلفتون النظر إلى خطة أهم شأنا؟.
فالإنسان له خطتان؛ للدنيا واحدة، وللآخرة أخرى، قال الله تعالى: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا}.
كلتاهما ذو أهمية، وقد فاضلت الآية بينهما، فقالت عن الآخرة: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة}. أي اجعل أصل عنايتك وجلها في إحكام خطة العمل للآخرة، وما فضل للدنيا؛ لأنه قال: {ولا تنس نصيبك من الدنيا}. وهذا التعبير {ولا تنس}. يستعمل فيما هو في الأهمية في الدرجة الثانية، أما الأهم فيقال فيه: {ابتغ}.
والآية تنبه إلى أنه مهما اجتهد الإنسان في تدبير شئون دنياه، فواجب أن يجد للآخرة ويجتهد؛ يعطيها الضعف من العناية، العلة ظاهرة:
* فمدة الحياة أقصر بكثير، كساعة من نهار أو أقل، قال تعالى: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا ساعة من نهار}.
* وقدرها كما يضع الأصبع في اليم، عن مستورد بن شداد قال صلى الله عليه وسلم: (مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يَرْجِعُ). أحمد
* وكل ما فيها من لذة تزول بغمسة واحدة في جهنم، ما فيها من عذاب زائلة بغمسة في الجنة، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ: هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟
هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟، فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ يَا ابْنَ آدَمَ: هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟، فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ).
فلا نسبة ولا مقارنة بينهما، فأحدهما أعلى عليين، والأخرى أسفل سافلين، والعقل يقول: من عني بشيء لأهميته في رزق أو غنى أو ملك، فأولى به العناية بما تضمن أوسع الرزق والغنى والملك، فالتاجر يتجر في بضاعة تربحه ضعفين، فإن وجد سلعة تربحه مئة ضعف فما هو بتارك، ولو خسر بضاعة الضعفين.
كل ذلك معلوم معروف للعامة والخاصة، لكن الإنسان يعمى عند تدبر الآخرة، وتضيع موازينه، وآية ذلك: أنه (يبتغ) فيما آتاه الله الدنيا، ثم (ينسى) أو يكاد نصيبه من الآخرة؛ فقليل ما يبذله وفيه من المشاحة والبخل والتقتير شيء كثير، ولا مطمع لإفهامه بوضع خطة مشروع وعمل للآخرة، فلا يزال يجادل ويقسم ألا يزيد على الفريضة، فلا يتفضل بنافلة، فكيف له أن يخط طريقا وهدفا ينفذ به إلى خير ما في الآخرة؟.
إن أمام الإنسان مشاريع لا تحصى، وهي تتقلب بين ناظريه، كل يناديه: إلي أقبل. لكن عمى البصيرة يمنع من رؤيتها، فلا يرى إلا مشاريع الدنيا، وكل عاقلة حصيف فهم حقيقة المعادلة ما بين الدنيا والآخرة، فلا يجد مناصا من اختياره مشروعه الأخروي، بتقديمه والعناية الكبرى به لا بإهمال مشروع الدنيا، فيضع له خطة يسير بها، لينفذ إلى موعود الله تعالى، فيدخل من أبواب الجنة الثمانية، أليس منها باب الريان، يدخل منه الصائمون، الدائمون على الصيام فرضا ونافلة، حتى صفة الصائمين؟.
فهذا مشروع من مشاريع الآخرة، كما أن الصلاة مشروع، والصدقة مشروع، والجهاد مشروع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروع، وطلب العلم وتعليمه مشروع، وعون الخلق كذلك. كلها مشاريع للآخرة، تحتاج إلى خطة تتضمن طريقة وهدفا، يضعها المسلم لنفسه، يسير بها وعليها، فينظر في نفسه وما تهوى، فيأخذ بأقربها إلى روحه وعقله واقتداره.
{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}.
إن تعاليم الإسلام علمت كيف يقيم المسلم خطته للآخرة، فيبني مشروعا أخرويا، أساسه: الانضباط، ووضوح الطريق، ومعرفة الهدف. فالشريعة فيها أعمال معلومة المقادير والأوقات، وبينها تناسق وتنسيق وترتيب زمني ومكاني، فالصلوات كل يوم خمس، والصيام كل عام شهر، والحج والعمرة كل العمر مرة، والزكاة في كل عام على الغني، وقس على هذا.
كل التعبدات وضعت بنظام وخطة محكمة لا تختلف كالليل والنهار والشمس والقمر، وفي هذا التحديد والضبط تعليم بالنسج على منوالها، حين يريد الإنسان ذلك لنفسه، فقد تدرب وتعلم منذ الصغر على التخطيط، وما التخطيط إلا أن تضع لنفسك هدفا، ثم طريقة ووسيلة للوصول إلى الهدف. والنجاح والفشل مرتبط بسمو الهدف، وسلامة الوسيلة.
كان فيمن سلف استغلال حسن لمواهب الإنسان، وإقامة مشاريع للآخرة، تصلح أن تكون أنموذجا يقرب إلى الفهم المراد والمقصود.
* مالك بن دينار الرجل الصالح، كان يكتب المصحف، يبيعه على الناس، فهذا مشروع مبارك، حيث حاجة الناس كبيرة إلى مصاحف مكتوبة في ذلك الوقت.
* كان عبدالله بن المبارك يتجر من أجل طلبة العلم، حتى لا يذهب العلم، فينفق عليهم بلا حساب، فكيف اهتدى لمثل هذا المشروع المبارك في ذلك الوقت؟.
أعظم من أولئك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان لكل واحد منهم خطة مشروع أخروي، وبعضهم يجمع بين أكثر من مشروع، لما ميزه الله من قدرات إيمانية:
* هذا خالد بن الوليد جعل مشروعه جهادا في سبيل الله تعالى، فكان القائد الفاتح سيف الله المسلول، يخطط لهذا العمل في ليله ونهاره، وهو همه الأكبر، فقد عبر عن فرحه بليلة يجاهد فيها، أكثر من فرحه بعروس تزف إليه.
* وهذا عبدالله بن عباس وعبد الله بن مسعود كانت مشاريعهم في التعلم والتعليم، فما مضى أحدهم إلا وقد خلف علما كثيرا، وتلامذة نجباء علماء، كعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وطاووس وعطاء، هؤلاء لابن عباس. والحسن البصري وقتادة ومسروق والشعبي وعلقمة والأسود بن يزيد، وهؤلاء تلامذة ابن مسعود كبار التابعين
ورأس كل الصحابة أبو بكر رضي الله عنه الذي كانت له مشاريع عديدة، وضع خطتها للآخرة، فهو المجاهد، وهو المنفق ماله كله في العسرة، وهو الذي يتفقد المرضى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِنُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ. فَمَنْ كَانَمِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، دُعِيَ مِنْبَابِالصَّلَاة. وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ. دُعِيَ مِنْبَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِالصِّيَامِ. دُعِيَ مِنْبَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِنْبَابِ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَاللَّهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ!، مَا عَلَى مَنْ دُعِيَمِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَالْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟. قَالَ: نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) البخاري و مسلم.
وعنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ). مسلم
الكاتب: د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
المصدر: موقع عودة ودعوة